الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.أغراض هذه السورة: ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله.وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38].وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء.فذلك إبطال أصول الشرك.وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا.فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها.وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.وإثبات عموم العلم لله تعالى.وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب.وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه. اهـ..قال سيد قطب: سورة يونس:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِالتعريف بالسورة:نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي، بجوه الخاص، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته. بعدما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني.والقرآن المكي، ولو أنه قرآن من القرآن، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة؛ وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب، في الموضوع وفي الأداء سواء.. إلا أن له مع ذلك جوه الخاص، ومذاقه المعين، الذي يعينه موضوعه الأساسي وهو في اختصار: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما؛ وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه، ويتبعوا أمره وشرعه؛ وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء؛ ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته. كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع. وهو أسلوب موح، عميق الإيقاع، بالغ التأثير؛ حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير، من البناء اللفظي، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل، في سورة الأنعام، والذي سنلم به هنا إن شاء الله.ولقد كان آخر عهدنا- في هذه الظلال- بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف- وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول- ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة- فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهلية بها، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود.. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة!.. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا.. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف!والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة.. والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة، التي تحدد شخصيتها وملامحها.. ونحن لا نملك- في هذا التقديم- إلا تلخيص هذه المحتويات واحدًا واحدًا في إجمال، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية؛ فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين}. {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله. قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون}. {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}.وتواجه طلبهم خارقة مادية- غير القرآن- واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن؛ وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وأن الآيات في يد الله ومشيئته؛ وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله.- وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية-: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}. {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتًا أو نهارًا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون}. {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين}.وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية- الأمر الذي يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه؛ ويطلبون قرآنًا غيره، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته- بينما هم سادرون في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله؛ كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة.. فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم، وفي وجودهم هم أنفسهم، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون، وما يتقلب بهم هم من أحوالوهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله.. وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة؛ والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى: {إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعًا وعد اللّه حقًا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون}.{إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}. {ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه. قل أتنبؤن اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}. {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون اللّه. فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}. {قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق. أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئًا إن اللّه عليم بما يفعلون}. {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}. {قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}. {ألا إن لله ما في السماوات والأرض. ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون. هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}.وتصور لهم حضور الله سبحانه وشهوده لكل ما يهم به البشر، وكل ما يزاولون من نية وعمل؛ مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة، كما يملؤه بالحذر واليقظة.. وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة: {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن. ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه. وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}.
|